من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان: 

(سورة الليل)

الحلقة: 113 

بقلم: د. سلمان بن فهد العودة

شعبان 1442 هــ/ مارس 2021

 * {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}:
ذكر ثلاثة أعمال: أولها: البخل، وليس المقصود البخل بالمال فحسب، وإنما البخل بكل ما يُمدح الإنسان ببذله مما هو مشروع، كالنصيحة والكلمة الطيبة والبشاشة، وهي في مقابل العطاء في الآيات قبلها.
وثانيها: الاستغناء، وهو مقابل التقوى؛ لأن المتَّقِي عبد خاضع لربه، مُقِرٌّ بالعبودية والافتقار، ويقابله المستغني- وليس الغَنِي- وهو مَن رأى نفسه غنيًّا بما لديه، مغترًّا بقوته، ناسبًا الفضل لنفسه، معرضًا عن ربه، متكبِّرًا على عباده.
وثالثها: التكذيب بالحسنى، وهو أساس الانحراف، وسبب البخل، والشعور بالاستغناء.
والأمم التي كفرت بالله تعالى، وإن كان لها إنجازات حضارية، فلديها خَوَاءٌ روحي وخلل إيماني؛ بسبب شعورها بالاستغناء؛ وكأنهم بسبب العلم والحضارة ظنوا أنهم لم يعودوا بحاجة- كما يعبِّرون- إلى وصاية الله عليهم؛ واستغنوا عن الله تعالى، وكذَّبوا بالحُسنى، فييسِّرهم للعُسرى.
ولو أنهم اتقوا الله وأطاعوه مع ما عندهم من الحضارة، لكان ما هم فيه من التيسير أعظم وأتم، وهم قد حُرِموا من النعيم الإيماني، وهو أعظم وأتم نعيم في الدنيا.
وعند هذه الآيات يبحث العلماء موضوع القَدَر، وفي «الصحيحين» أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان في جنازة، فأخذ شيئًا، فجعل يَنْكُتُ به الأرضَ، فقال: «ما منكم من أحد إِلَّا وقد كُتبَ مقعدُهُ من النار، ومقعدُهُ من الجنة». قالوا: يا رسولَ الله، أفلا نتَّكلُ على كتابنا ونَدَعُ العملَ؟ قال: «اعملُوا؛ فكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له، أما مَن كان من أهل السعادة؛ فَيُيَسَّرُ لعمل أهل السعادة، وأما مَن كان من أهل الشَّقاء؛ فَيُيَسَّرُ لعمل أهل الشَّقاوة». ثم قرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية: «{فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۝ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى }».
وفي الآيتين جعل الله البدء من عند الإنسان نفسه، فالذي يسَّره الله لليسرى هو مَن سبق أن {أَعْطَى وَاتَّقَى }، ولذا جاء حرف السين الدال على المستقبل، والذي {بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى } هو الذي سوف ييسِّره الله للعُسرى، وكأن المعنى أن الله مكَّنهم وأقدرهم على سلوك الطريق الذي يختارونه دون قهر أو إلزام.
ثم إن الحساب والعقاب في الآخرة، إنما يكون بموجِب ما جعله الله تعالى في الفطرة من الإدراك الضروري أنه يفعل باختياره، ولا يوجد قوة تفرض عليه ضد إرادته.
وحين يكون لديه خيارات متعدِّدة في المسكن أو الزواج أو القرارات الأخرى، يفكِّر ويبحث ويستشير، ثم يختار بمحض إرادته ويتحمل نتائج خياره.
إن أمور الإنسان الدنيوية؛ من دراسة، وأكل وشرب، ونوم ويقظة، وكلام، وذهاب وإياب وسفر، لا يحتج الإنسان فيها بالقضاء والقدر، ألم يكن لديك- وأنت إنسان- شعور ضروري تحس به حتى ولو كنتَ طفلًا صغيرًا أنك تفعل باختيارك، وتترك باختيارك؟!
وهذا هو الوُسع: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وهو الفطرة، ولو أن الناس كانوا مقهورين على طريق ما؛ لم يكن للحياة معنى، ولا للاختيار حكمة، ولتساوى البر والفاجر، والصالح والطالح.
والله تعالى خلق الخلق وعلم ما هم عاملون، فلا يظن عاقل أن الله يفاجَأ بما يعملون.. تعالى الله عن ذلك، بل علم ما هم عاملون، وهو مكتوب عنده: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [طه: 52]، لكن عِلْم الله تعالى ليس هو الذي يملي على الإنسان ما يعمل، ويقهره عليه.
وهل يظن عاقلٌ أن إرادة الله اعتباطية، بحيث إن هذا الإنسان يريد الخير والله يريد له الشر؟! وهل يقول أحد بهذا؟! إنما إرادته سبحانه هي فيما يعلم أن هذا الإنسان يريده، بمعنى أن الإنسان هذا لو ترك وشأنه لم يكن ليفعل إلا ما فعله من قبل نفسه من خير أو من شر.
والقَدَر قد أُخْفِي عن العباد، والشرع قد أُظْهِر، وكان القدر ابتلاءً ليؤمن به الإنسان، والشرع ابتلاءً ليعمل به الإنسان، ولا تضاد ولا تناقض.
 * {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى }:
«ما»: نافية، أي: لا يغني عنه ماله، ويحتمل أن تكون استفهامية، أي: ما الذي يغني عنه ماله؟ ولم يَذْكُرْ هنا شخصًا؛ فهي تعم كل مَن ينطبق عليه الوصف.
وإذا كان مدار النهوض على المكان والزمان والإنسان، فهذه الآية تشير إلى شرط المال، والذي يملك المال يملك القوة؛ ولذلك أبرزه الله في هذه السورة مع أنه من العطاء المذكور في قوله: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى }، وهو واحد من الأشياء التي يبخل بها، وهي المذكورة في قوله: {وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى }.
وقد يكون تخصيصه إشارة إلى تعلُّق بعض الغافلين به؛ لأن المقام مقام ذم، فهو يشير إلى فئة شغلتها أموالها عن التزكِّي والتطهُّر والسُّمو.
معنى {تَرَدَّى }: هوى في نار جهنم، أو: تردَّى في قبره، أو تردَّى رداء الكفن الذي يلبسه، والأقرب أن المعنى: إذا هلك وسقط، ويدخل في ذلك هلاكه في الدنيا، والآخرة؛ لأن المال يحول أحيانًا بين الناس وبين الهداية والطاعة، ولزوم الطريق المستقيم.
 * {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ۝ وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى }:
أوجب تعالى على نفسه- كرمًا منه وفضلًا- الهُدى، وهو بيان الحق للناس، وليس معناه: جبرهم على الحق؛ لأن الواقع أن منهم المهتدي والضال، فهي هداية البيان وإقامة الحجة، وليست هداية الإلهام والتوفيق ولزوم الطريق.
وفي هذا إشارة إلى استطاعة الاهتداء، ومهما يكن، فالثمرة من اهتداء الإنسان هي له، والله لا ينفعه هداية مهتدٍ ولا ضلالة ضال، ولهذا قال بعدها: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى }، فلا ينفع الناسُ ربَّهم إن أطاعوه، ولا يضرونه إن عصوه؛ فله الدنيا وله الآخرة، ومَن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومَن ضل فإنما يضل عليها.
وقد قال جلَّ وعلا في الحديث القدسي: «يا عبادي، لو أن أوَّلَكُمْ وآخرَكم وإنسَكم وجِنَّكم كانوا على أَتْقَى قلب رجل واحد منكم، ما زادَ ذلك في مُلكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أوَّلَكُمْ وآخرَكم وإنسَكم وجِنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقصَ ذلك من مُلكي شيئًا...».
 * {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى }:
هذا من الهُدَى الذي وعد الله أن ينذر الناس النار.
ومعنى {تَلَظَّى }: تتوهَّج وتتَّقد، وخطب النبيُّ صلى الله عليه وسلم في المسجد، فجعل يقول: «أنذرتُكُمُ النارَ، أنذرتُكُمُ النارَ، أنذرتُكُمُ النارَ». حتى لو أن رجلًا كان بالسوق لَسَمِعَه، حتى وقعت خَمِيصة كانت على عاتقه عند رجليه.
 * {لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى ۝ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى }:
{ﭒ} أي:يدخلها، وقيل: من الصَّلْي، يقال: صَلَى الشاة، إذا شواها.
و{الأَشْقَى }: الأكثر شقاوة، وقد ورد أن الشَّقِي في النار: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيد } [هود: 105]، فإما أن يكون معنى {الأَشْقَى }: الشقي، وهنا لا إشكال، أو يكون المقصود هنا نارًا خاصة، وهي نار الكفار التي لا يخرجون منها، وهي نار الخلود الأبدي السَّرْمدي، كقوله: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا } [مريم: 70]، فيكون الأشقى هو الكافر، والنار يدخلها الكفار، ويدخلها بعض عصاة المؤمنين ممن شاء الله تعذيبهم فيها، ثم يخرجهم منها بإذنه.
{الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } فالشقاء هنا يتعلق بالتكذيب والتولِّي، والتكذيب هنا باللسان، والتولِّي بالفعل، فهو جمع بين التكذيب بلسانه والتكذيب بفعله.
 * {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى }:
{الأَتْقَى } أفعل تفضيل من التقوى، وهو: المُيَسَّر لليسرى، وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، ولا يعني هذا قصر الآية عليه.
ولأن المقام مقام وعيد وتخويف وإنذار، ناسبَ أَلَّا يذكر الجنة تصريحًا هنا، مع أن مَن زُحزح عن النار فسيدخل الجنة.
 * {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى }:
أي: يعطي ماله طلبًا لزكاة نفسه من البخل والشح، وطلبًا لمرضاة الله تعالى، وطلبًا للإحسان إلى عباد الله، فهو لم يفعل ذلك رياءً ولا سمعة.
 * {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى }:
ما أعطاهم ليرد لهم جميلًا، وفيه مشروعية رد الجميل؛ لأن الإنسان السَّوي يحفظ الجميل، ومن اللؤم نسيان الجميل، بل من أسباب انقطاع الناس عن فعل الجميل أن يفعل الإنسانُ المعروفَ لشخص، ثم يتنكَّر له، كما قال عنترة:
نُبِّئت عَمرًا غيرَ شَاكرِ نِعْمَتِي * والكُفْرُ مَخبَثَةٌ لنَفسِ المُنْعِمِ 
 * فأبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه لم يكن عطاؤه مجرد رد يُجازي به، بل ابتداء بالفضل والإحسان، وابتغاء وجه ربه الأعلى: {إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى }.
 * {وَلَسَوْفَ يَرْضَى }:
وهذا وعد، وانظر قوله عن الرضا: {وَلَسَوْفَ } فأحال على المستقبل؛ لأن الرضا يكتمل له في الدار الآخرة بما يُعطاه من الثواب في الجنة، وهو الرضا الذي لا يعقبه سخط، وأعظمه حينما يتلقَّى أهل الجنة رضا الله عنهم: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } [البينة: 8]؛ ولذا يسأل تعالى أهل الجنة: «هل رَضِيتُم؟ فيقولونَ: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خلقك! فيقولُ: أنا أعطيكم أفضلَ من ذلك. قالوا: يا ربِّ، وأيُّ شيء أفضلُ من ذلك؟ فيقولُ: أُحِلُّ عليكم رِضْواني، فلا أسخطُ عليكم بعده أبدًا».
وهنا معنًى لطيف: أيهما نزلت أولًا: «سورة الليل»، أو «سورة الضُّحى»؟
الأقرب أن «سورة الضُّحى» نزلت أولًا؛ ففي «سورة الضُّحى» أعطى سبحانه النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ومهَّد له كثيرًا، وقال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى }، وأبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فناسب أن يكون له نصيب من هذا الرضا؛ ولذا قال هنا: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى }، وناسب أن تكون السورتان متجاورتين؛ فتلك فيها البشارة والرضا للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه فيها البشارة والرضا لأبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، على أن الآية ليست خاصة بأبي بكر رضي الله عنه، وإن كان هو سبب نزولها، إلَّا أنها لكل مَن عمل بمثل هذه الأعمال الصالحة الفاضلة، والله تعالى أعلم.

سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي: 
http://alsallabi.com/books/7

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سحر الأرحام: تعريفه، أنواعه، أعراضه وعلاجه

أحد زعماء المافيا اكتشف بأن المحاسب لديه كان يختلس من أمواله

(صحف اخنوخ) أدريس عليه السلام ‏🤲🤲